بعد اسابيع من القصف، كان أبي مقيماً في المستشفى، وبقينا نحن، أمي وأخي وأنا في قبو أحد الفنادق البيروتية القديمة، نعد الساعات ونأكل خبزاً جافاً وأرزاً وبطاطا، بعد أسابيع من القصف والعزلة، كنت أنا بنتاً مهذبة، لا أسبب لوالدتي قلقاً في أي مسألة. آكل ما هو موجود، لا أتسبب في فوضى أو ضجة غير لازمة ولا أسأل أسئلة مزعجة، باستثناء السؤال عن أبي من حين لآخر، علماً بأنه كان من عادته الغياب بقصف أو بدون قصف…
بعد أسابيع من القصف خرجنا إلى الخارج. لا أذكر لماذا، كان الجو خريفياً لطيفاً، والهواء جافاً مغبراً، كأن شخصاً مر بمكنسة آلية قديمة، نظف بها الشوارع من البشر ومن ضجيج السيارات، وترك بعده هذا الهواء الدافئ الغابر. وفجأة أخذت أوراق صفراء وزهرية تتساقط علينا من السماء. أعادت لي ألوانها الناعمة طعم الموز والفريز الصناعي الذي طالما عشقته في العلكة ولم أذقه منذ أغلقوا مدرستي. حاولت انتشال إحدى الأوراق عن الأرض رغم توتر والدتي المفاجئ، شعرت بأنها أسرعت في خطاها وأحكمت قبضة يدها علي في خليط من جزاء على خطأ لم أدركه ومن اشمئزاز. تلعصمت الكلمات في فمها الذي أدارته إلى ناحية أخرى ففهمت أن الأمر يتعلق بهم وأنني لم أخطئ.
انتشلت إحدى الاوراق الصفراء وبدأت أقرأها. الخط كبير وواضح، العنوان “بيان عسكري”، "إلى جميع سكان بيروت" بدأ مكبر صوت في الصراخ. . .“ اتركوا المدينة ولن يحدث لكم شيء”. كيف لي أن أركز في قراءة الورقة في هذا الضجيج؟ لا أفهم، برطمات والدتي تزيد وتعلو، لكنني لا أسمعها من المكبر، وكلام الورقة كثير وغريب، يدخل إلى رأسي ولا أفهمه، إنهم يريدون انقاذنا، يبعثون إلينا مكبر صوت يحذرنا، وورق بطعم الموز والفريز من السماء، فما بها أمي تلعن أبويهم وتظنني لا أفهم شيئأ، أنا افهم كل ما يحدث حولي.. أفهم جيداً، لكن الهواء الساخن الغابر، وكثرة الكلام في الورقة قد أنعساني ولم أنته من قرائته… أشعر بالتعب، لقد وصلنا، ولا أذكر إلى أين، لكنني متعبة وسأضع رأسي في حضن أمي لأنام قليلاً، ثم أقوم لأقرأ الورقة الصفراء، بعد دقيقة أو خمسة.
[كتب هذا النص بعدما تناولت المواقع الإجتماعية مناشير "بلاغ عسكري" التي تناثرت في سماء غزة أثناء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على القطاع. وأعادت إلى ذهن الكاتبة حادثة مماثلة أثناء الغزو الإسرائيلي لبيروت.]